ألحلقة الثّانية: بداية بناء السّلام، يبدأ من الرّد على سؤال: لماذا حصلت الحرب الأهليّة في لبنان؟
لا يمكن أن نبني السّلام من دون حلّ أسباب النّزاع. لطالما سألت نفسي: لماذا تحوّل لبنان المزدهر، والذي عرف بسويسرا الشّرق، إلى ساحة لمثل هذه الحرب الرّهيبة؟ هل هو الفقر، ألجوع أوالحرمان؟ هل هو التّمييز، وانتهاكات حقوق الإنسان؟ هل هو الجهل، وطغيان العوامل الدّينيّة؟ هل هو التّدخّل الخارجي والإستعمار؟
كتب الكثير، وقيل الكثير بهذا الصّدد. قد تبدو الأسباب واضحة وجليّة بالنّسبة للنّاس. من حقّ النّاس أن تعتقد، أنّ ما رافق الحرب من شعارات للأطراف المتقاتلة، يعكس خلفيّات المقاتلين. لكنّني لم أقتنع. ساعدني عملي في الأمم المتّحدة لسنوات طويلة، (12 سنة بين جنيف ولندن ونيويورك)، أن أفهم أكثر خلفيّات العلاقات الدّوليّة. وساعدني كثيرا، أنّ فترة عملي في الهيئة الدّوليّة حصلت بين 1987 و1999، أيّ قبل، وخلال، وبعد نهاية الحرب الباردة، حيث أدركت أكثر، طبيعة التّحوّل الذي شهده العالم فيما بعد الحرب الأهليّة. ووجدت نفسي جزءا من فريق عمل، يقوم ببحث موضوع بناء السّلام بعد النّزاع. تكوّنت لدي فكرة واضحة عن العناصر التي يراها المجتمع الدّولي، كأسباب للحروب الأهليّة، وما يجب على المجتمع الدّولي، أن يقوم به للمساعدة في إزالة الأسباب وإعادة بناء السّلام.
علينا أن نجيب أوّلا على سؤال يتعلق بواقع الفقر والجوع والحرمان الذي كان سائدا في لبنان. هل يمكن أن تكون هذه العوامل من أسباب الحرب في لبنان؟ أنا لا أريد أن أضع جوابا قاطعا على هذا السّؤال، فهو جزء من البحوث التي تسعى منظّمتنا للقيام بها، بالتّعاون مع خبراء محلّيّين (من كلّ الأطراف)، ودوليّين، يأخذون بالمقاييس الدّوليّة في تعريف كلّ من هذه العوامل، وواقع انطباقها في حينه، على الحالة في لبنان. لكنّني أعلم، أنّ لبنان، كان من الدّول الدّيمقراطيّة التي تعتمد النّظام الرّأسمالي والإقتصاد الحرّ، نظاما إقتصاديّا لها. وعليه، كان الفرد هو صاحب المبادرة، في حين لعبت الدّولة دورا محدودا في التّوجيه الإقتصادي. لعب النّظام الإقتصادي الذي قام في لبنان في حينه، وإعتماده على قطاعات دون أخرى، دورا هاما في سوء توزيع الثّروة الوطنيّة. فحصل ولا شكّ، حرمان في المناطق النّائية والرّيفيّة. لكنْ هل كان فعلا، هناك فقر وبؤس، يمكن أن يخلق مثل هذه الحرب الرّهيبة؟
علينا أن نجيب على سؤال آخر وهو: هل كان التّمييز لأيّ غرض من الأغراض، بما في ذلك التّمييز على الأساس المذهبي، وإنتهاكات حقوق الإنسان، هما السّبب، أو من الأسباب التي أدّت إلى الحرب الأهليّة. لن أضع جوابا قاطعا على هذا السؤال، فهو سيكون كذلك، جزءا من البحوث التي تسعى منظّمتنا إلى القيام بها، بالتّعاون مع خبراء محليّين ودوليّين، يأخذون بالمقاييس الدّوليّة في تعريف كلّ من هذه العوامل، وواقع إنطباقها في حينه، على الحالة في لبنان. لكنّني أذكر، أنّ لبنان، كان من الدّول المميّزة في حركة الحرّيّات العامّة. تحوّل قطاعه الإعلامي إلى صوت الشّرق في العالم. إنتشرت فيه الجمعيّات الأهليّة، والأحزاب السّياسيّة، والمنتديات الفكريّة. قال غسّان تويني في حينه: يكفي في لبنان، أنّك قادر أن تقول أنّك لست حرّا، لتعرف أنّك حر. كان العدل رمزا يفتخر به اللّبنانيّون. أنا عشت هذه المرحلة من واقع العدالة، إذ أنّ والدي كان قاضيا، وأعلم تماما كم كان للقضاء هيبته ومكانته. ولطالما ساد نقاش بين القيادات الفكريّة من كل الميول، حول الحاجة للتّخلّص من التّوزيع الطّائفي السّياسي التّمييزي، في البلاد.
سؤال آخر علينا أن نجيب عليه أيضا. هل كان الجهل، وطغيان العوامل الدّينيّة على فكر الفرد، سببين لتلك الحرب، أو من أسبابها؟ مرّة أخرى، سيكون هذا السؤال جزءا من البحوث التي تسعى منظّمتنا إلى القيام بها. تقول الإحصائيّات، أنّ نسبة المتعلّمين في لبنان، في فترة السّتّينيّات والسّبعينيّات، كانت توازي النّسبة في أيّ بلد أوروبّي. كان اللّبنانيّون من الذين آمنوا باكرا بالعلم، حتّى أنّ الآباء، كانوا يبيعون أملاكهم من أجل تعليم أولادهم. وقد كان لبنان مقرّ العديد من كبريات الجامعات الدّوليّة منذ القرن التّاسع عشر، وانتشرت المدارس الخاصّة فيه كالفطر، فتحوّل إلى مدرسة الشّرق، كما وصفه أحد الباحثين. إنتشرت المدارس الرّسميّة في كلّ القرى، وأقيمت الجامعة الوطنيّة، ومؤسّسات الرّعاية الإجتماعيّة.
ترى، هل أنّ التّدخّل الخارجي والإستعمار، كانا سببين للحرب الأهليّة في لبنان؟ لا يمكن لمن هم من جيلي، أو أكبر منّي سنّا، أنْ يتغافلوا عن حقيقة ما كان يدور في لبنان، وحول لبنان، من صراع قوميّ، إقليميّ، ودوليّ، متّصل بقضيّة فلسطين، وأيضا بالصّراع الإيديولوجي، ألإقتصادي والسّياسي، ألذي شهده العالم خلال الحرب الباردة. لكنّنا نذكر، أنّ لبنان، كان ملتزما إتّفاق الهدنة منذ عام 1949. كما أنّ لبنان كان ملتزما ألشّرعيّة الدّوليّة، ومبادئ الأمم المتّحدة. وكان عضوا في دول عدم الإنحياز، معتمدا نظريّة لا شرق ولا غرب، وعلاقاته منفتحة على الجميع، وفقا لمصالحه. كانت حركة الأحزاب القريبة من الإتّحاد السّوفياتي، ناشطة بفعاليّة، بما في ذلك الأحزاب الشّيوعيّة. كما كانت الأحزاب المحافظة، ذات القواعد الدّينيّة، أو القريبة من المفاهيم اللّيبراليّة الغربيّة، أيضا ناشطة بقوّة. لبنان، كان نموذجا فعليّا للدّيمقراطيّة في هذا الجزء من العالم. فما الذي حصل؟ لماذا تحوّل كلّ شيء إلى فوضى، تطوّرت إلى حرب أهليّة؟ هذا الموضوع هو من البحوث التي تسعى منظّمتنا إلى القيام بها، بالتّعاون مع خبراء محلّيّين ودوليّين.
أنا أذكر جيّدا أحداث السّبعينيّات، والتّحرّكات الطّلّابيّة، والنّقابيّة، والأحزاب، في مواجهة ما حصل في لبنان من تفاوت إقتصادي، وإجتماعي، وحرمان في مناطقه الرّيفيّة، وقيام أحزمة فقر وبؤس حول المدينة، ودفاع عن القضيّة الفلسطينيّة، والحركات التّحرّريّة في العالم، والدّفاع عن الجامعة اللّبنانيّة، والمدرسة الرّسميّة. كانت الحركة الإعتراضيّة، تمارَس بديمقراطيّة، رغم بعض ممارسات القمع التي حصلت من قبل قوى الأمن في حينه. ورغم ذلك، حصلت ألحرب الأهليّة، وأدّت إلى مأ أدّت إليه. لماذا؟ سنتابع البحث في الحلقات اللّاحقة.
كلام رائع