بناء السّلم بعد النّزاع – خاص صفحة المنظّمة اللّبنانيّة لبناء السّلام والتّنمية المستدامة
(ألحلقة الأولى)
ألسّفير د. هشام حمدان
عنوان من أربع كلمات، يختصر رؤية عالميّة، تبلورت بعد نهاية الحرب الباردة، من أجل الحفاظ على السّلام والأمن الدّوليّين. ماذا تعني هذه الكلمات؟ وكيف يمكن أن تختصر رؤية بهذا الحجم؟
1- ألمعنى واضح جدا، ولا يحتاج لإجتهادات وتحليل. هناك نزاع، سواء داخلي أو خارجي، أدّى إلى حرب. ألنّزاع الدّاخلي، هو النّزاع الذي يقوم بين سكّان المجتمع الواحد، (ألحرب الأهليّة في لبنان، هي نموذج للنّزاع الدّاخلي)، والنّزاع الخارجي، هو النّزاع الذي يقوم مع عضو آخر في المجتمع الدّولي، (ألإجتياح الإسرائيلي للبنان عاميّ 1978 و1982، هما نموذجان للنّزاع الخارجي). هذا النّزاع، أدّى إلى الحرب. ألحرب أدّت إلى خراب، ودمار، وتشتّت، وجوع، وفقر، وكراهية، وانقسام إجتماعيّ، وانهيار في البنى المادّيّة، وفي مقوّمات النّظام العامّ: ألقانونيّة والأخلاقيّة، وهجرة، وتسلّط، ومفقودين، وفساد، وفوضى، وكثرة آراء، وتقلّص في الولاء الوطني والعائلي، وكذلك دمار بيئيّ، وتراثيّ، وثقافيّ، وتربويّ، وغيره. كيف يمكن الخروج من هذا الوضع، وتصحيح المسار، لإستعادة السّلام والنّظام العامّ؟ وبمعنى آخر، كيف يمكن أن نبني السّلام بعد النّزاع؟
بناء السّلام، ليس فكرة جديدة. فقد رافق جهود بناء السّلام، نظام العلاقات الدّوليّة، منذ أن بدأت تتكّون المجتعات البشريّة. برزت حاجة لسلام إجتماعيّ بين أبناء المجتمع نفسه. وبرزت حاجة لبناء السّلام بين شعوب مجتمعات مختلفة، متجاورة، تتقاسم مصالح مشتركة، أو تتنافس عليها. لقد أمضينا ثلاث سنوات حتّى الآن، ندرس تطوّر بناء السّلام والعلاقات الدّوليّة. أنا أشكر جامعة تكساس في أوستن، ألتي فتحت لي أبوابها لمدّة ثلاث سنوات، من أجل دراسة هذا الموضوع. كان من الواضح لي، أنّ المجتمع الدّولي، إهتمّ دائما ببناء السّلام بعد نزاع دوليّ. لم تكن هناك آليّة تسمح لبناء السّلام بعد نزاعات داخليّة، إلّا عبر تدخّل أطراف خارجيّة، تفرض سيطرتها، وتدير البلاد لمصلحتها. كانت تتمّ في أحيان كثيرة، إثارة هذه النّزاعات، لتبرير التّدخّل لقوى خارجيّة، غرضها وضع اليد على الدّول المعنيّة، (مثال التّدخّل البريطاني، والفرنسي، والرّوسي، وغيرهم، في الولايات الخاضعة للحكم العثماني، تحت عنوان ألمسألة الشّرقيّة. سنشرح الأمر في مقالات لاحقة).
أدّت الحاجة لبناء السّلام بعد النّزاعات الدّوليّة، إلى توقيع عشرات الإتّفاقيّات، والمعايير اللتين تحوّلتا إلى هيكل قانونيّ كامل ملزم، وأطلقتا حركة إنشاء المنظّمات الحكوميّة الدّوليّة. كان انتهاك هذا الهيكل القانوني، سببا لعودة النّزاعات والحروب. لذلك، أصبح بناء السّلام، هدفا للشّعوب الحضاريّة ألسّاعية للتّخلّص من الحروب، وتنظيم الرّفاه لشعوبها، والشّعوب الأخرى. وقد خرجت نظريّات فلسفيّة عديدة، تميّز في الأخلاقيّات الأمميّة. أهمّ هذه النّظريّات، كانت ألنّظريّة اللّيبراليّة العالميّة، ألتي تدفع إلى توفيق المصالح الوطنيّة، الخاصّة للدول، مع موجب الإلتزام بالنّظام القانوني لأعضاء المجتمع الدّولي.
كانت عصبة الأمم أوّلا، ومن ثمّ الأمم المتّحدة، ألنّموذجين الأساسيّين لهذا التّوجّه. وبالمقابل، قامت نظرية الدّولة القوميّة، ألتي تغلّب المصالح الوطنيّة للدّول، على موجبها الإلتزام بالحلول العالميّة للنّزاعات، وتبنّي مفهومها لبناء السّلام، على أساس حماية موقعها، وسلطانها في نظام العلاقات الدّوليّة. برز هذا المفهوم بشكل خاصّ، مع الأنظمة الشّموليّة، والدّيكتاتوريّة في ألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والإتّحاد السّوفياتي.
كان الأمل عند تأسيس الأمم المتّحدة، أن تساهم المنظّمة بتسوية كلّ أنواع النّزاعات، سواء الدّاخليّة أو الدّوليّة. مُنح مجلس الأمن صلاحيات بوليسيّة واسعة، للحفاظ على الأمن والسّلم الدّوليّين. لكنّ الحرب الباردة بين القوى الكبرى التي تحكم مجلس الأمن، فرضت توجّها مخالفا، ففشلت الهيئة الدّوليّة في تحقيق الآليّات التي رسمها ميثاق الأمم المتّحدة لهذا الغرض، وامتنعت عن التّدخّل بالنّزاعات الدّاخليّة، بحجّة أنّها مسائل داخليّة.
لم تشهد تلك الحقبة أيّ نزاع أهلي، لم تتدخّل فيه القوى الخارجيّة. بل تحوّلت النّزاعات الدّاخليّة، إلى نزاعات بالواسطة، بين القوى الكبرى. أدّى تدخّل الأمم المتّحدة، في بعض الحالات، إلى نزاع بين الجبابرة، كما حصل في حرب الكونغو. لم تتدخّل الأمم المتّحدة، حتّى في فرض الإتّفاقيّات الدّوليّة، عند انتهاكها، كما في حالات حقوق الإنسان، والجرائم ضدّ الإنسانيّة، وجرائم الحرب، ساد الهرب من المسؤوليّة. كلّ ذلك بسبب الحرب الباردة بين الدّول دائمة العضويّة في مجلس الأمن.
بعد نهاية الحرب الباردة، تمكّن المجتمع الدّولي من إعادة النّظر في نظام حفظ الأمن والسّلم الدّوليّين.
أطلق أمين عام الأمم المتّحدة فكرة بناء السّلم بعد النّزاع، ولاسيّما في الدّول التي تعرّضت لحروب أهليّة. وافق مجلس الأمن على دمج هذه الفكرة بالمبادئ العامّة لنظام حفظ الأمن والسّلم الدّوليّين. أصبح بناء السّلم بعد النّزاع، شرطا من الشّروط الواجبة لتحقيق السّلام الدّولي. وقد طلب مجلس الأمن من الأمين العامّ، أنْ يفنّد العناصر الضّروريّة لتحقيق هذا المبدأ. شاركتُ في أعمال فريق خبراء، مفتوح العضويّة، لصياغة هذه العناصر. تطوّر دور الأمم المتّحدة، وتعاظم في هذا الإطار، نتيجة كثرة الدّول التي عانت من حروب داخليّة. وقامت الأمانة العامّة بإنشاء قسم خاصّ لديها، لهذا الغرض. لبنان لديه برنامج تحت هذا العنوان، يديره منسّق الأنشطة الإنسانيّة للمنظّمات الدّوليّة فيه. وسوف نبحث التّفاصيل تدريجيّا في الحلقات التّالية.
Splendid